البيانات هي عصب الحياة في وقتنا الحالي حيث نستطيع من خلالها اتخاذ القرار بشكلٍ أسهل مما كنا نتصوره قبل خمس سنوات، فإذا كنت تود معرفة أداء الطلاب في تخصص ما في الجامعة فإن البيانات يمكن أن تشير إلى مكامن الخلل، كذلك الحال في القطاعات الخاصة، فعند طرح منتج جديد يمكنك الوصول إلى قرار مُحكم في شكل وطريقة طرح المنتج والمكان الأنسب لطرحه من خلال دراسة الجمهور وجمع البيانات الخاصة بسلوكه.
مع التطور الهائل في البرامج والتقنيات، أصبحنا نعيش في عالم نشارك فيها بياناتنا وسلوكنا دون السماح لتلك الأجهزة والبرمجيات بتخزينها والاستفادة منها في أمور كالدعاية والإعلان أو دراسة الجمهور المستهدف في موضوع ما، فعلى سبيل المثال يمكنك من خلال الاختبارات المدرسية قياس مدى تقدُم تعلم الطلاب في مادة من العلوم الأساسية وجمع أكبر قدر من البيانات لمعرفة مكامن القوة والضعف، فالمؤسسات العالمية في مجال التعليم كـ OECD حتمًا تستفيد من تلك البيانات التي رُصدت في الاختبارات العالمية، كاختبار البيسا والذي يعتبر المعيار الدولي الرئيس لقياس جودة الأنظمة التعليمية في البلدان المختلفة، وغيره من الاختبارات التي تُقدم على مستوى الدول، كما هو الحال لوكيل شركة سيارات فإن أفضل طريقة لإضافة مميزات تجذب الجمهور المستهدف تكون عبر بيانات سلوك وتجربة المستخدمين لهذا النوع من السيارات.
في نهاية عام 1980م، استخدم الصحفي “بيل ديمند” المفهوم الأول للاستفادة من البيانات في القصص الصحفية وذلك في تحقيق بعنوان “The Color Of Money”، حصل بسببه على جائزة بوليتزر للصحافة، حيث تضمن سلسلة من المقالات نُشرت في “The Atlanta Journal-Constitution” وناقشت قصية المساواة بين ذوي البشرة البيضاء وذوي البشرة السوداء في خدمة القروض المنزلية التي تقدمها البنوك في مدينة أتلانتا الأمريكية، وسرعان ما توسع هذا التحقيق الصحفي إلى بقية مناطق ومدن الولايات المتحدة الأمريكية.
مع كثرة شبكات التواصل الاجتماعي -فيسبوك وتويتر وغيرها- أصبح من السهل تصنيف هذه الشبكات بناءً على مُرتاديها، فالسياسيون وصناع الرأي تجدهم في منصات “تويتر“، بينما تجد أغلب مُرتادي “فيسبوك” في دائرة ضيقة لتحديث وتبادل أفراحهم وأتراحهم مع الأصدقاء أو أفراد العائلة، في الوقت الذي يتركز فيه أغلب مرتادي منصة “لينكدن” -linkdin- على فئة الباحثين عن الوظائف أو الدورات التدريبية لتطوير مهاراتهم، ليس هذا فحسب فبعض المنصات كـ “بيهانس” -behance- عبارة عن منصة رئيسية تجمع فئات معينة من المجتمع كالفنانين لعرض محتوياتهم وإبداعاتهم.
تخيل حجم المعلومات التي تجمعها تلك المنصات وغيرها من المواقع الاجتماعية عن سلوك وبيانات كل عضو مُسجّل لديها، ورغم حرص تلك المواقع على إخفاء بعض المعلومات الأساسية عن المُعلنين أو المستفيدين من تلك البيانات كالأسماء أو الصور أو بيانات شخصية قد تكشف هوية العضو، إلا أنها تتيح مشاركة معلوماتك مع المُعلنين وغيرهم للاستفادة من تلك البيانات حتى لو كانت ناقصة.
مثال على ذلك مشاركة بياناتك في معرفة المواقع التي تزورها، فإذا كنت دائم التردد على مواقع لشركات السيارات، فإن الإعلانات التي ستظهر لك تنحصر في المنتجات الخاصة بالسيارات، وبالتالي فإن البيانات الشخصية ليست وحدها ذات أهمية، وإنما الموضوعات التي يتداولها المشاركون أيضًا قد تكون مصدر مهم لدراسة وتحليل انطباعاتهم عبر المنصات المختلفة، عن منتج ما كمشروب جديد عرضته سلسلة مقاهي “ستاربكس” وتود معرفة انطباع الناس عن ذلك المنتج.
والبيانات ليس عبارة عن نصوص وأرقام، بل تشمل كذلك الصور والفيديوهات والأصوات وكل ما يُمكن رصده وتصنيفه وتحليله، وربما أفضل توصيف للبيانات قد جاء عبر منصة “ويكيبيديا” عندما عرّفت البيانات بأنها “مجموعة من الحروف أو الكلمات أو الأرقام أو الرموز أو الصور (الخام) المتعلقة بموضوع معين”، لذا فإن مفهوم صحافة البيانات يعتمد بشكل كبير جدًا على حجم المعلومات التي تم رصدها وأوجدت قصة صحفية من خلال التصوير البياني.
ما هي أهمية استخدام البيانات في الصحافة؟
تُعد البيانات ثروة معلوماتية تساعد على قراءة ما بين السطور واستشراف المستقبل، حيث تعمل على تحديد وكشف خفايا كثيرة لا نستطيع بدونها سوى التخمين وبناء السيناريوهات من دون أدلة وشواهد واقعية أو منطقية، كذلك هو الحال في عالم الصحافة، فمن دون الأدلة والشواهد التي تدعم المادة الصحفية تُصبح بلا قيمة ولن تؤثر على الجمهور المستهدف، حيث يمكنك استغلال مهاراتك الصحفية في خلق قصة من خلال تحليل بيانات ضحمة وطرح الأسئلة الصحفية للإجابة عليها عبر ما توصلت إليه، وهنا بعض الأمثلة الرائعة والتي تم تجميعها من قبل “مارينا بوشارت” في مقالها على صفحة “Medium“، عن أبرز الأعمال الصحفية التي استخدمت فيها البيانات.
في المثال أعلاه، استخدمت شبكة رويترز تحقيقًا استقصائيًا معتمدًا على جمع بيانات تتعلق بأزمة اللاجئين الروهينغا في مخيم “كوتوبلونج” ببنغلادش، حيث اعتمدت القصة بشكل كبير على تسليط الضوء على حجم التوسع في أعداد اللاجئين في المخيم بدون بنية تحتية تستوعب الكميات الهائلة من العوائل والأفراد الروهينغا، وفي هذا التحقيق تم جمع المعلومات عبر الاستعانة بالمؤسسات الإغاثية في الميدان وعبر الصور الملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية، ليس هذا فحسب بل أيضًا تم تحديد أماكن محددة في الخريطة وأرسلت الشبكة فريقًا من المصورين لالتقاط صور وبعض الفيديوهات لدعم محتوى التحقيق الاستقصائي. (التقنيات المستخدمة في هذا التحقيق:QGIS)
في عام 2017م، نشرت شبكة وقنوات BBC تحقيقًا صحفيًا عن مدينة الموصل العراقية بعدما لحقها الدمار على خلفية سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي عليها، حيث صوّر التحقيق حجم الدمار الذي لحق بالمدينة باستخدام الخرائط، ليس هذا فحسب، بل أجرى القائمون على التحقيق لقاءات مصورة مع أهالي المدينة نفسها بما أضفى جانبًا إنسانيًا على القضية وأبرز وحشية الجماعات الإرهابية في تدمير البنية التحتية للمدينة، وبحسب “مارينا بوشارت” فإنه تم الاعتماد بشكلٍ كبير في هذا التحقيق الصحفي على آخر الإحصاءات والبيانات لـ UNHCR في رصد تشريد سكان المدينة إلى مناطق مختلفة في العراق. (التقنيات المستخدمة في هذا التحقيق: QGIS mapping software, Microsoft Excel, Planet satellite imagery, DigitalGlobe images)
التحقيق الصحفي الذي قام به موقع “BuzzFeed” مستخدمًا البيانات عن سلوك الطائرات التي تُحلق في السماء دون أية معلومات عنها، كشف الغطاء عن سلوك تلك الطائرات، حيث خلُص التحقيق إلى أنها طائرات تجسس تقوم بمهام بغرض الاستطلاع مستخدمة تقنيات متقدمة في عدم التتبع، إلا أنه قد كُشف أمرها بفضل البيانات وتقنيات أخرى كالذكاء الاصطناعي. (التقنيات المستخدمة في هذا التحقيق: R, RStudio, PostgreSQL, PostGIS, QGIS, OpenStreetMap)
كيف أتعلم "مهارة صحافة البيانات" ؟
تعلُّم مهارة صحافة البيانات بحاجة إلى فهمك أولًا للموضوع نفسه قبل الخوض في استخراج البيانات أو تحليلها، لذا عليك وضع الأسئلة الجوهرية التي تود الحصول عليها قبل الشروع في تنفيذ أية قصة استقصائية تحتاج فيها إلى البيانات كموجه رئيسي للحصول على النتيجة النهائية، هنا نستعرض لكم بعض المواقع التي ستساعدك حتمًا في بناء قدراتك الفنية والمهارية للخوض في صحافة البيانات.